فصل: التَّصْرِيفُ الرَّابِعُ الَّذِي يَجِبُ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ: الْقِيَاسُ وَالتَّفْرِيعُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



(وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ) أَنَّ الْمُبَاحَ صِدْقٌ لَا يُخْشَى مِنْهُ ضَرَرٌ، وَبَثُّ هَذِهِ الظُّنُونِ لَا يَخْلُو عَنْ ضَرَرٍ، فَقَدْ يَسْمَعُهُ مَنْ يَسْكُنُ إِلَيْهِ وَيَعْتَقِدُهُ جَزْمًا فَيَحْكُمُ فِي صِفَاتِ اللهِ تعالى بِغَيْرِ عِلْمٍ وَهُوَ خَطَرٌ، وَالنُّفُوسُ نَافِرَةٌ عَنْ إِشْكَالِ الظَّوَاهِرِ، فَإِذَا وُجِدَ مُسْتَرْوَحًا مِنَ الْمَعْنَى وَلَوْ كَانَ مَظْنُونًا سَكَنَ إِلَيْهِ وَاعْتَقَدَهُ جَزْمًا، وَرُبَّمَا يَكُونُ غَلَطًا، فَيَكُونُ قَدِ اعْتَقَدَ فِي صِفَاتِ اللهِ تعالى بِمَا هُوَ الْبَاطِلُ أَوْ حَكَمَ عَلَيْهِ فِي كَلَامِهِ بِمَا لَمْ يَرِدْ بِهِ (وَأَمَّا الثَّانِي) وَهُوَ أَقَاوِيلُ الْمُفَسِّرِينَ بِالظَّنِّ فَلَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تعالى كَالِاسْتِوَاءِ وَالْفَوْقِ وَغَيْرِهِ، بَلْ لَعَلَّ ذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ أَوْ فِي حِكَايَاتِ أَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْكُفَّارِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْأمثال وَمَا لَا يَعْظُمُ خَطَرُ الْخَطَأِ فِيهِ (وَأَمَّا الثَّالِثُ) فَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَمَدَ فِي هَذَا الْبَابِ إِلَّا مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ تَوَاتَرَ عَنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم تَوَاتُرًا يُفِيدُ الْعِلْمَ، فَأَمَّا أَخْبَارُ الْآحَادِ فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ وَلَا نَشْتَغِلُ بِتَأْوِيلِهِ عِنْدَ مَنْ يَمِيلُ إِلَى التَّأْوِيلِ وَلَا بِرِوَايَتِهِ عِنْدَ مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَى الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ بِالْمَظْنُونِ وَاعْتِمَادٌ عَلَيْهِ، وَمَا ذَكَرُوهُ لَيْسَ بِبَعِيدٍ، لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ مَا دَرَجَ عَلَيْهِ السَّلَفُ، فَإِنَّهُمْ قَبِلُوا هَذِهِ الأخبار مِنَ الْعُدُولِ وَرَوَوْهَا وَصَحَّحُوهَا. فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ التَّابِعِينَ كَانُوا قَدْ عَرَفُوا مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ أن لا يَجُوزَ اتِّهَامُ الْعَدْلِ بِالْكَذِبِ لاسيما فِي صِفَاتِ اللهِ تعالى، فَإِذَا رَوَى الصِّدِّيقُ رضي الله عنه خَبَرًا وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ كَذَا، فَرَدُّ رِوَايَتِهِ تَكْذِيبٌ لَهُ وَنِسْبَةٌ لَهُ إِلَى الْوَضْعِ أَوْ إِلَى السَّهْوِ، فَقَبِلُوهُ وَقَالُوا: قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَذَا فِي التَّابِعِينَ، فَالْآنَ إِذَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ أنه لَا سَبِيلَ إِلَى اتِّهَامِ الْعَدْلِ الْتَّقِيِّ مِنَ الصَّحَابَةِ- رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ- فَمِنْ أَيْنَ يَجِبُ أَلَّا يَتَّهِمَ ظُنُونَ الْآحَادِ، وَأَنْ يُنْزِلَ الظَّنَّ مَنْزِلَةَ نَقْلِ الْعَدْلِ مَعَ أَنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ؟ فَإِذَا قَالَ الشَّارِعُ: مَا أَخْبَرَكُمْ بِهِ الْعَدْلُ فَصَدِّقُوهُ وَاقْبَلُوهُ وَانْقُلُوهُ وَأَظْهِرُوهُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ: مَا حَدَّثَتْكُمْ بِهِ نُفُوسُكُمْ مِنْ ظُنُونِكُمْ فَاقْبَلُوهُ وَأَظْهِرُوهُ، وَارْوُوا عَنْ ظُنُونِكُمْ وَضَمَائِرِكُمْ وَنُفُوسِكُمْ مَا قَالَتْهُ، فَلَيْسَ هَذَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ؛ وَلِهَذَا نَقُولُ: مَا رَوَاهُ غَيْرُ الْعَدْلِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَضَ عَنْهُ وَلَا يُرْوَى، وَيُحْتَاطَ فِي الْمَوَاعِظِ وَالْأمثال وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا.
(وَالْجَوَابُ الثَّانِي) أَنَّ تِلْكَ الأخبار رَوَتْهَا الصَّحَابَةُ لِأَنَّهُمْ سَمِعُوهَا يَقِينًا، فَمَا نَقَلُوا إِلَّا مَا تَيَقَّنُوهُ، وَالتَّابِعُونَ قَبِلُوهُ وَرَوَوْهُ، وَمَا قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللهِ عليه السلام كَذَا، بَلْ قَالُوا: قَالَ فُلَانٌ قَالَ رَسُولَ اللهِ عليه السلام كَذَا وَكَانُوا صَادِقِينَ، وَمَا أَهْمَلُوا رِوَايَتَهُ لِاشْتِمَالِ كُلِّ حَدِيثٍ عَلَى فَوَائِدَ سِوَى اللَّفْظِ الْمُوهِمِ عِنْدَ الْعَارِفِ مَعْنًى حَقِيقِيًّا يَفْهَمُهُ مِنْهُ لَيْسَ ذَلِكَ ظَنِّيًّا فِي حَقِّهِ: مِثَالُهُ رِوَايَةُ الصَّحَابِيِّ عَنْ رَسُولِ اللهِ عليه السلام قوله: «يَنْزِلُ اللهُ تعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرُ لَهُ؟» الْحَدِيثَ فَهَذَا الْحَدِيثُ سِيقَ لِنِهَايَةِ التَّرْغِيبِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، وَلَهُ تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ فِي تَحْرِيكِ الدَّوَاعِي لِلتَّهَجُّدِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ، فَلَوْ تُرِكَ هَذَا الْحَدِيثُ لَبَطَلَتْ هَذِهِ الْفَائِدَةُ الْعَظِيمَةُ وَلَا سَبِيلَ إِلَى إِهْمَالِهَا، وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا إِبْهَامُ لَفْظِ النُّزُولِ عِنْدَ الصَّبِيِّ وَالْعَامِّيِّ الْجَارِي مَجْرَى الصَّبِيِّ، وَمَا أَهْوَنَ عَلَى الْبَصِيرِ أَنْ يَغْرِسَ فِي قَلْبِ الْعَامِّيِّ التَّنْزِيهَ وَالتَّقْدِيسَ عَنْ صُورَةِ النُّزُولِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: إِنْ كَانَ نُزُولُهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا لِيُسْمِعَنَا نِدَاءَهُ وَقَوْلَهُ فَمَا أَسْمَعَنَا، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي نُزُولِهِ؟ وَلَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُنَادِيَنَا كَذَلِكَ وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ أَوْ عَلَى السَّمَاءِ الْعُلْيَا، فَهَذَا الْقَدْرُ يَعْرِفُ الْعَامِّيُّ أَنَّ ظَاهِرَ النُّزُولِ بَاطِلٌ، بَلْ مِثَالُهُ أَنْ يُرِيدَ مَنْ فِي الْمَشْرِقِ إِسْمَاعَ شَخْصٍ فِي الْمَغْرِبِ وَمُنَادَاتَهُ فَتَقَدَّمَ إِلَى الْمَغْرِبِ بِأَقْدَامٍ مَعْدُودَةٍ وَأَخَذَ يُنَادِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أن لا يَسْمَعَ فَيَكُونُ نَقْلُهُ الْأَقْدَامَ عَمَلًا بَاطِلًا وَفِعْلًا كَفِعْلِ الْمَجَانِينِ، فَكَيْفَ يَسْتَقِرُّ مِثْلُ هَذَا فِي قَلْبِ عَاقِلٍ؟ بَلْ يَضْطَرُّ بِهَذَا الْقَدْرِ كُلُّ عَامِّيٍّ إِلَى أَنْ يَتَيَقَّنَ نَفْيَ صُورَةِ النُّزُولِ، وَكَيْفَ وَقَدْ عَلِمَ اسْتِحَالَةَ الْجِسْمِيَّةِ عَلَيْهِ، وَاسْتِحَالَةُ الِانْتِقَالِ عَلَى غَيْرِ الْأَجْسَامِ كَاسْتِحَالَةِ النُّزُولِ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالٍ، فَإِذَنِ الْفَائِدَةُ فِي نَقْلِ هَذِهِ الأخبار عَظِيمَةٌ، وَالضَّرَرُ يَسِيرٌ، فَأَنَّى يُسَاوِي هَذَا حِكَايَةَ الظُّنُونِ الْمُنْقَدِحَةِ فِي الْأَنْفُسِ؟
فَهَذِهِ سُبُلُ تَجَاذُبِ طُرُقِ الِاجْتِهَادِ فِي إِبَاحَةِ ذِكْرِ التَّأْوِيلِ الْمَظْنُونِ أَوِ الْمَنْعِ، وَلَا يَبْعُدُ ذِكْرُ وَجْهٍ ثَالِثٍ وَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى قَرَائِنِ حَالِ السَّائِلِ وَالْمُسْتَمِعِ، فَإِنْ عَلِمَ أنه يَنْتَفِعُ بِهِ ذَكَرَهُ، وَإِنْ عَلِمَ أنه يَتَضَرَّرَ تَرَكَهُ، وَإِنْ ظَنَّ أَحَدَ الأمريْنِ كَانَ ظَنُّهُ كَالْعِلْمِ فِي إِبَاحَةِ الذِّكْرِ، وَكَمْ مِنْ إِنْسَأن لا تَتَحَرَّكُ دَاعِيَتُهُ بَاطِنًا إِلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَلَا يَحِيكُ فِي نَفْسِهِ إِشْكَالٌ مِنْ ظَوَاهِرِهَا، فَذِكْرُ التَّأْوِيلِ مَعَهُ مُشَوِّشٌ، وَكَمْ مِنْ إِنْسَانٍ يَحِيكُ فِي نَفْسِهِ إِشْكَالُ الظَّاهِرِ حَتَّى يَكَادَ أَنْ يَسُوءَ اعْتِقَادُهُ فِي الرَّسُولِ عليه السلام وَيُنْكِرَ قَوْلَهُ الْمُوهِمَ، فَمِثْلُ هَذَا لَوْ ذُكِرَ مَعَهُ الِاحْتِمَالُ الْمَظْنُونُ، بَلْ مُجَرَّدُ الِاحْتِمَالِ الَّذِي يَنْبُو عَنْهُ اللَّفْظُ انْتَفَعَ بِهِ وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِهِ مَعَهُ، فَإِنَّهُ دَوَاءٌ لِدَائِهِ، وَإِنْ كَانَ دَاءً فِي غَيْرِهِ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ عَلَى رُءُوسِ الْمَنَابِرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُحَرِّكُ الدَّوَاعِيَ السَّاكِنَةَ مِنْ أَكْثَرِ الْمُسْتَمِعِينَ، وَقَدْ كَانُوا عَنْهُ غَافِلِينَ وَعَنْ إِشْكَالِهِ مُنْفَكِّينَ، وَلَمَّا كَانَ زَمَانُ السَّلَفِ الْأَوَّلِ زَمَانَ سُكُونِ الْقَلْبِ بَالَغُوا فِي الْكَفِّ عَنِ التَّأْوِيلِ خِيفَةً مِنْ تَحْرِيكِ الدَّوَاعِي وَتَشْوِيشِ الْقُلُوبِ، فَمَنْ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَهُوَ الَّذِي حَرَّكَ الْفِتْنَةَ، وَأَلْقَى هَذِهِ الشُّكُوكَ فِي الْقُلُوبِ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ فَبَاءَ بِالْإِثْمِ، أَمَّا الْآنَ وَقَدْ فَشَا ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ، فَالْعُذْرُ فِي إِظْهَارِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ رَجَاءً لِإِمَاطَةِ الْأَوْهَامِ الْبَاطِلَةِ عَنِ الْقُلُوبِ أَظْهَرُ، وَاللَّوْمُ عَنْ قَائِلِهِ أَقَلُّ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ التَّأْوِيلِ الْمَقْطُوعِ وَالْمَظْنُونِ، فَبِمَاذَا يَحْصُلُ الْقَطْعُ بِصِحَّةِ التَّأْوِيلِ؟ قُلْنَا بِأَمْرَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أن يكون الْمَعْنَى مَقْطُوعًا ثُبُوتُهُ لِلَّهِ تعالى كَفَوْقِيَّةِ الْمَرْتَبَةِ (وَالثَّانِي) أَلَّا يَكُونَ اللَّفْظُ إِلَّا مُحْتَمِلًا لِأَمْرَيْنِ، وَقَدْ بَطَلَ أَحَدُهُمَا وَتَعَيَّنَ الثَّانِي، مِثَالُهُ قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [6: 18] فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ فِي وَضْعِ اللِّسَانِ أَنَّ الْفَوْقَ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا فَوْقِيَّةَ الْمَكَانِ أَوْ فَوْقِيَّةَ الرُّتْبَةِ، وَلَمَّا بَطَلَ فَوْقِيَّةُ الْمَكَانِ لِمَعْرِفَةِ التَّقْدِيسِ لَمْ يَبْقَ إِلَّا فَوْقِيَّةُ الرُّتْبَةُ، كَمَا يُقَالُ: السَّيِّدُ فَوْقَ الْعَبْدِ وَالزَّوْجُ فَوْقَ الزَّوْجَةِ، وَالسُّلْطَانُ فَوْقَ الْوَزِيرِ، فَاللهُ فَوْقَ عِبَادِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَهَذَا كَالْمَقْطُوعِ بِهِ فِي لَفْظِ الْفَوْقِ، وَأَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ إِلَّا فِي هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ.
أَمَّا لَفْظُ الِاسْتِوَاءِ إِلَى السَّمَاءِ وَعَلَى الْعَرْشِ رُبَّمَا لَا يَنْحَصِرُ مَفْهُومُهُ فِي اللُّغَةِ هَذَا الِانْحِصَارَ، وَإِذَا تَرَدَّدَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ مَعَانٍ: مَعْنَيَانِ جَائِزَانِ عَلَى اللهِ تعالى، وَمَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ الْبَاطِلُ، فَتَنْزِيلُهُ عَلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ الْجَائِزَيْنِ أن يكون بِالظَّنِّ وَبِالِاحْتِمَالِ الْمُجَرَّدِ، وَهَذَا تَمَامُ النَّظَرِ فِي الْكَفِّ عَنِ التَّأْوِيلِ.

.التَّصَرُّفُ الثَّالِثُ الَّذِي يَجِبُ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ: التَّصْرِيفُ:

وَمَعْنَاهُ أنه إِذَا وَرَدَ قوله تعالى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [13: 2] فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ مُسْتَوٍ وَيَسْتَوِي؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ قَوْلِهِ هُوَ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ عَلَى الِاسْتِقْرَارِ أَظْهَرُ مِنْ قوله: {رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} الْآيَةَ بَلْ هُوَ كَقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [2: 29] فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِوَاءٍ قَدِ انْقَضَى مِنْ إِقْبَالٍ عَلَى خَلْقِهِ أَوْ عَلَى تَدْبِيرِ الْمَمْلَكَةِ بِوَاسِطَتِهِ، فَفِي تَغْيِيرِ التَّصَارِيفِ مَا يُوثِقُ فِي تَغْيِيرِ الدَّلَالَاتِ وَالِاحْتِمَالَاتِ، فَلْيَجْتَنِبِ التَّصْرِيفَ كَمَا يَجْتَنِبُ الزِّيَادَةَ، فَإِنَّ تَحْتَ التَّصْرِيفِ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ.

.التَّصْرِيفُ الرَّابِعُ الَّذِي يَجِبُ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ: الْقِيَاسُ وَالتَّفْرِيعُ:

مِثْلَ أَنْ يَرِدَ لَفْظُ الْيَدِ فَلَا يَجُوزُ إِثْبَاتُ السَّاعِدِ وَالْعَضُدِ وَالْكَفِّ مُصَيِّرًا إِلَى أَنَّ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ الْيَدِ، وَإِذَا وَرَدَ الْأُصْبُعُ لَمْ يَجُزْ ذِكْرُ اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ وَالْعَصَبِ وَإِنْ كَانَتِ الْيَدُ الْمَشْهُورَةُ لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ. وَأَبْعَدُ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ إِثْبَاتُ الرِّجْلِ عِنْدَ وُرُودِ الْيَدِ، وَإِثْبَاتُ الْفَمِ عِنْدَ وُرُودِ الْعَيْنِ أَوْ عِنْدَ وُرُودِ الضَّحِكِ، وَإِثْبَاتُ الْأُذُنِ وَالْعَيْنِ عِنْدَ وُرُودِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ وَكَذِبٌ وَزِيَادَةٌ، وَقَدْ يَتَجَاسَرُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْحَمْقَى مِنَ الْمُشَبِّهَةِ الْحَشْوِيَّةِ؛ فَلِذَلِكَ ذَكَرْنَاهُ.

.التَّصَرُّفُ الْخَامِسُ: لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ:

وَلَقَدْ بَعُدَ عَنِ التَّوْفِيقِ مَنْ صَنَّفَ كِتَابًا فِي جَمْعِ هَذِهِ الأخبار وَرَسَمَ فِي كُلِّ عُضْوٍ بَابًا، فَقَالَ: بَابٌ فِي إِثْبَاتِ الرَّأْسِ وَبَابٌ فِي الْيَدِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَسَمَّاهُ كِتَابَ الصِّفَاتِ، فَإِنَّ هَذِهِ كَلِمَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ صَدَرَتْ مِنْ رَسُولِ اللهِ عليه السلام فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ مُتَبَاعِدَةٍ اعْتِمَادًا عَلَى قَرَائِنَ مُخْتَلِفَةٍ تُفْهِمُ السَّامِعِينَ مَعَانِيَ صَحِيحَةً، فَإِذَا ذُكِرَتْ مَجْمُوعَةً عَلَى مِثَالِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ صَارَ جَمْعُ تِلْكَ الْمُتَفَرِّقَاتِ فِي السَّمْعِ دُفْعَةً وَاحِدَةً قَرِينَةً عَظِيمَةً فِي تَأْكِيدِ الظَّاهِرِ وَإِيهَامِ التَّشْبِيهِ، وَصَارَ الْإِشْكَالُ فِي أَنَّ الرَّسُولَ عليه السلام لَمَّا نَطَقَ بِمَا يُوهِمُ خِلَافَ الْحَقِّ أَعْظَمُ فِي النَّفْسِ وَأَوْقَعُ، بَلِ الْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا الِاحْتِمَالُ، فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ ثَانِيَةً وَثَالِثَةً وَرَابِعَةً مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ صَارَ مُتَوَالِيًا بِضَعْفِ الِاحْتِمَالِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْجُمْلَةِ؛ وَلِذَلِكَ يَحْصُلُ مِنَ الظَّنِّ بِقَوْلِ الْمُخْبِرِينَ الثَّلَاثَةِ مَا لَا يَحْصُلُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ، بَلْ يَحْصُلُ مِنَ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ مَا لَا يَحْصُلُ بِالْآحَادِ، وَيَحْصُلُ مِنَ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ بِاجْتِمَاعِ التَّوَاتُرِ مَا لَا يَحْصُلُ بِالْآحَادِ. وَكُلُّ ذَلِكَ نَتِيجَةَ الِاجْتِمَاعِ إِذْ يَتَطَرَّقُ الِاحْتِمَالُ إِلَى قَوْلِ كُلِّ عَدْلٍ وَإِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْقَرَائِنِ، فَإِذَا انْقَطَعَ الِاحْتِمَالُ أَوْ ضَعُفَ فَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ جَمْعُ الْمُتَفَرِّقَاتِ.

.التَّصَرُّفُ السَّادِسُ: الِتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُجْتَمِعَاتِ:

فَكَمَا لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقَةٍ فَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعَةٍ، فَإِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ سَابِقَةٍ عَلَى كَلِمَةٍ أَوْ لَاحِقَةٍ لَهَا مُؤَثِّرَةٌ فِي تَفْهِيمِ مَعْنَاهُ مُطْلَقًا وَمُرَجِّحَةٌ الِاحْتِمَالَ الضَّعِيفَ فِيهِ، فَإِذَا فُرِّقَتْ سَقَطَتْ دَلَالَتُهَا، مِثَالُهُ قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [6: 18] لَا تُسَلَّطُ عَلَى أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: هُوَ فَوْقَ، لِأَنَّهُ إِذَا ذُكِرَ الْقَاهِرُ قَبْلَهُ ظَهَرَتْ دَلَالَةُ الْفَوْقِ عَلَى الْفَوْقِيَّةِ الَّتِي لِقَاهِرٍ مَعَ الْمَقْهُورِ، وَهِيَ فَوْقِيَّةُ الرُّتْبَةِ، وَلَفْظُ (الْقَاهِرِ) يَدُلُّ عَلَيْهِ، بَلْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ غَيْرِهِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ فَوْقَ عِبَادِهِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْعُبُودِيَّةِ فِي وَصْفِهِ فِي اللهِ فَوْقَهُ يُؤَكِّدُ احْتِمَالَ فَوْقِيَّةِ السِّيَادَةِ، إِذْ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: زَيْدٌ فَوْقَ عَمْرٍو قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ تَفَاوُتُهُمَا فِي مَعْنَى السِّيَادَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ أَوْ غَلَبَةِ الْقَهْرِ أَوْ نُفُوذِ الأمر بِالسُّلْطَةِ أَوْ بِالْأُبُوَّةِ أَوْ بِالزَّوْجِيَّةِ فَهَذِهِ الْأُمُورُ يَغْفُلُ عَنْهَا الْعُلَمَاءُ فَضْلًا عَنِ الْعَوَامِّ، فَكَيْفَ يُسَلَّطُ الْعَوَامُّ فِي مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى التَّصَرُّفِ بِالْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ وَالتَّأْوِيلِ وَالتَّفْسِيرِ وَأَنْوَاعِ التَّغْيِيرِ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الدَّقَائِقِ بَالَغَ السَّلَفُ فِي الْجُمُودِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى مَوَارِدِ التَّوْقِيفِ كَمَا وَرَدَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَرَدَ، وَبِاللَّفْظِ الَّذِي وَرَدَ، وَالْحَقُّ مَا قَالُوهُ وَالصَّوَابُ مَا رَأَوْهُ، فَأَهَمُّ الْمَوَاضِعِ بِالِاحْتِيَاطِ مَا هُوَ تَصَرُّفُهُ فِي ذَاتِ اللهِ وَصِفَاتِهِ وَأَحَقُّ الْمَوَاضِعِ بِإِلْجَامِ اللِّسَانِ وَتَقْيِيدِهِ عَنِ الْجَرَيَانِ فِيمَا يَعْظُمُ فِيهِ الْخَطَرُ، وَأَيُّ خَطَرٍ أَعْظَمُ مِنَ الْكُفْرِ؟

.الْوَظِيفَةُ السَّادِسَةُ: فِي الْكَفِّ بَعْدَ الْإِمْسَاكِ:

وَأَعْنِي بِالْكَفِّ كَفَّ الْبَاطِنِ عَنِ التَّفْكِيرِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ، فَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ إِمْسَاكُ اللِّسَانِ عَنِ السُّؤَالِ وَالتَّصَرُّفِ، وَهَذَا أَثْقَلُ الْوَظَائِفِ وَأَشَدُّهَا، وَهُوَ وَاجِبٌ كَمَا وَجَبَ عَلَى الْعَاجِزِ الزَّمِنِ أَلَّا يَخُوضَ غَمْرَةَ الْبِحَارِ وَإِنْ كَانَ يَتَقَاضَاهُ طَبْعُهُ أَنْ يَغُوصَ فِي الْبِحَارِ وَيُخْرِجَ دُرَرَهَا وَجَوَاهِرَهَا، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَغُرَّهُ نَفَاسَةُ جَوَاهِرِهَا مَعَ عَجْزِهِ عَنْ نَيْلِهَا، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَجْزِهِ وَكَثْرَةِ مَعَاطِبِهَا وَمَهَالِكِهَا وَيَتَفَكَّرَ أنه إِنْ فَاتَهُ نَفَائِسُ الْبِحَارِ فَمَا فَاتَهُ إِلَّا زِيَادَاتٌ وَتَوَسُّعَاتٌ فِي الْمَعِيشَةِ وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهَا، فَإِنْ غَرِقَ أَوِ الْتَقَمَهُ تَمْسَاحٌ فَاتَهُ أَصْلُ الْحَيَاةِ، فَإِنْ قُلْتَ: إِنْ لَمْ يَنْصَرِفْ قَلْبُهُ مِنَ التَّفْكِيرِ وَالتَّشَوُّفِ إِلَى الْبَحْثِ فَمَا طَرِيقُهُ؟ قُلْتُ: طَرِيقُهُ أَنْ يَشْغَلَ نَفْسَهُ بِعِبَادَةِ اللهِ وَبِالصَّلَاةِ وَبِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَبِعِلْمٍ آخَرَ لَا يُنَاسِبُ هَذَا الْجِنْسَ مِنْ لُغَةٍ أَوْ نَحْوٍ أَوْ خَطٍّ أَوْ طِبٍّ أَوْ فِقْهٍ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ فَبِحِرْفَةٍ أَوْ صِنَاعَةٍ وَلَوِ الْحِرَاثَةَ وَالْحِيَاكَةَ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَبِلَعِبٍ وَلَهْوٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْخَوْضِ فِي هَذَا الْبَحْرِ الْبَعِيدِ غَوْرُهُ وَعُمْقُهُ، الْعَظِيمُ خَطَرُهُ وَضَرَرُهُ، بَلْ لَوِ اشْتَغَلَ الْعَامِّيُّ بِالْمَعَاصِي الْبَدَنِيَّةِ رُبَّمَا كَانَ أَسْلَمَ لَهُ مِنْ أَنْ يَخُوضَ فِي الْبَحْثِ عَنْ مَعْرِفَةِ اللهِ تعالى، فَإِنَّ ذَلِكَ غَايَتُهُ الْفِسْقُ، وَهَذَا عَاقِبَتُهُ الشِّرْكُ.
{وإِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [4: 48] فَإِنْ قُلْتَ: الْعَامِّيُّ إِذَا لَمْ تَسْكُنْ نَفْسُهُ إِلَى الِاعْتِقَادَاتِ الدِّينِيَّةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ لَهُ الدَّلِيلُ، فَإِنْ جَوَّزْتَ ذَلِكَ فَقَدْ رَخَّصْتَ لَهُ فِي التَّفْكِيرِ وَالنَّظَرِ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ؟ الْجَوَابُ: أَنِّي أُجَوِّزُ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ الدَّلِيلَ عَلَى مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَعَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ وَعَلَى الْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلَكِنْ بِشَرْطَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَلَّا يُزَادَ مَعَهُ عَلَى الْأَدِلَّةِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ (وَالْآخَرُ) أَلَّا يُمَارِيَ فِيهِ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا يَتَفَكَّرَ فِيهِ إِلَّا تَفْكِيرًا سَهْلًا جَلِيًّا وَلَا يُمْعِنَ فِي التَّفَكُّرِ، وَلَا يُوغِلَ غَايَةَ الْإِيغَالِ فِي الْبَحْثِ.
وَأَدِلَّةُ هَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ، أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ فَمِثْلُ قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمر فَسَيَقُولُونَ اللهُ} [10: 31] وَقوله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [50: 6- 10] وَكَقوله: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [80: 24- 31] وَقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} إِلَى قوله: {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} [78: 6- 16] وَأمثال ذَلِكَ، وَهِيَ قَرِيبٌ مِنْ خَمْسِمِائَةِ آيَةٍ جَمَعْنَاهَا فِي كِتَابِ جَوَاهِرِ الْقُرْآنِ، بِهَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ الْخَلْقُ جَلَالَ اللهِ الْخَالِقِ وَعَظَمَتَهُ لَا بِقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ الْأَغْرَاضَ حَادِثَةٌ، وَإِنَّ الْجَوَاهِرَ لَا تَخْلُو عَنِ الْأَغْرَاضِ الْحَادِثَةِ فَهِيَ حَادِثَةٌ، ثُمَّ الْحَادِثُ يَفْتَقِرُ إِلَى مُحْدِثٍ، فَإِنَّ تِلْكَ التَّقْسِيمَاتِ وَالْمُقَدِّمَاتِ وَإِثْبَاتَهَا بِأَدِلَّتِهَا الرَّسْمِيَّةِ يُشَوِّشُ قُلُوبَ الْعَوَامِّ، وَالدَّلَالَاتُ الظَّاهِرَةُ الْقَرِيبَةُ مِنَ الْأَفْهَامِ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ تَنْفَعُهُمْ وَتُسَكِّنُ نُفُوسَهُمْ وَتَغْرِسُ فِي قُلُوبِهِمُ الِاعْتِقَادَاتِ الْجَازِمَةِ، وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ فَيُقْنَعُ فِيهِ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا} [21: 22] فَإِنَّ اجْتِمَاعَ الْمُدَبِّرِينَ سَبَبُ إِفْسَادِ التَّدْبِيرِ، وَبِمِثْلِ قوله: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [17: 42] وَقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [23: 91] وَأَمَّا صِدْقُ الرَّسُولِ فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِقوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْأن لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [17: 88] وَبِقوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [2: 23] وَقوله: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [11: 13] وَأمثالهِ. وَأَمَّا الْيَوْمُ الْآخِرُ فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِقوله: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [36: 78، 79] وَبِقوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} إِلَى قوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [75: 36- 40] وَبِقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} إِلَى قوله: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [22: 5] وَقوله: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى} [41: 39] وَأمثال ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ الَّتِي اعْتَمَدَهَا الْمُتَكَلِّمُونَ وَقَرَّرُوا وَجْهَ دَلَالَتِهَا فَمَا بَالُهُمْ يَمْتَنِعُونَ عَنْ تَقْرِيرِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ وَلَا يَمْنَعُونَ عَنْهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُدْرَكٌ بِنَظَرِ الْعَقْلِ وَتَأَمُّلِهِ؟ فَإِنْ فُتِحَ لِلْعَامِّيِّ بَابُ النَّظَرِ فَلْيُفْتَحْ مُطْلَقًا أَوْ لِيُسَدَّ عَلَيْهِ طَرِيقُ النَّظَرِ رَأْسًا وَلْيُكَلَّفِ التَّقْلِيدَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ.
(الْجَوَابُ) أَنَّ الْأَدِلَّةَ تَنْقَسِمُ إِلَى مَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَفَكُّرٍ وَتَدْقِيقٍ خَارِجٍ عَنْ طَاقَةِ الْعَامِّيِّ وَقُدْرَتِهِ، وَإِلَى مَا هُوَ جَلِيٌّ سَابِقٌ إِلَى الْأَفْهَامِ بِبَادِي الرَّأْيِ مِنْ أَوَّلِ النَّظَرِ مِمَّا يُدْرِكُهُ كَافَّةُ النَّاسِ بِسُهُولَةٍ، فَهَذَا لَا خَطَرَ فِيهِ، وَمَا يَفْتَقِرُ إِلَى التَّدْقِيقِ فَلَيْسَ عَلَى حَدِّ وُسْعِهِ؛ فَأَدِلَّةُ الْقُرْآنِ مِثْلُ الْغِذَاءِ يَنْتَفِعُ بِهِ كُلُّ إِنْسَانٍ، وَأَدِلَّةُ الْمُتَكَلِّمِينَ مِثْلُ الدَّوَاءِ يَنْتَفِعْ بِهِ آحَادُ النَّاسِ، وَيَسْتَضِرُّ بِهِ الْأَكْثَرُونَ، بَلْ أَدِلَّةُ الْقُرْآنِ كَالْمَاءِ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ الصَّبِيُّ الرَّضِيعُ وَالرَّجُلُ الْقَوِيُّ، وَسَائِرُ الْأَدِلَّةِ كَالْأَطْعِمَةِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا الْأَقْوِيَاءُ مَرَّةً وَيَمْرَضُونَ بِهَا أُخْرَى وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا الصِّبْيَانُ أَصْلًا؛ وَلِهَذَا قُلْنَا: أَدِلَّةُ الْقُرْآنِ أيضا يَنْبَغِي أَنْ يُصْغِيَ إِلَيْهَا إِصْغَاءَهُ إِلَى كَلَامٍ جَلِيٍّ، وَلَا يُمَارِي فِيهِ إِلَا مِرَاءً ظَاهِرًا، وَلَا يُكَلِّفُ نَفْسَهُ تَدْقِيقَ الْفِكْرِ وَتَحْقِيقَ النَّظَرِ، فَمِنَ الْجَلِيِّ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الِابْتِدَاءِ فَهُوَ عَلَى الْإِعَادَةِ أَقْدَرُ كَمَا قَالَ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [30: 27] وَأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَنْتَظِمُ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ بِمُدَبِّرَيْنِ فَكَيْفَ يَنْتَظِمُ فِي كُلِّ الْعَالَمِ؟ وَأَنَّ مَنْ خَلَقَ عَلِمَ، كَمَا قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [67: 14] فَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ تَجْرِي لِلْعَوَامِّ مَجْرَى الْمَاءِ الَّذِي جَعَلَ اللهُ مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ، وَمَا أَخَذَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ تَنْقِيرٍ وَسُؤَالٍ وَتَوْجِيهِ إِشْكَالٍ ثُمَّ اشْتِغَالٍ بِحَلِّهِ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَضَرَرُهُ فِي حَقِّ أَكْثَرِ الْخَلْقِ ظَاهِرٌ، فَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُتَوَقَّى، وَالدَّلِيلُ عَلَى تَضَرُّرِ الْخَلْقِ بِهِ الْمُشَاهَدَةُ وَالْعَيَانُ وَالتَّجْرِبَةُ، وَمَا ثَارَ مِنَ الشَّرِّ مُنْذُ نَبَغَ الْمُتَكَلِّمُونَ وَفَشَتْ صِنَاعَةُ الْكَلَامِ مَعَ سَلَامَةِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أيضا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةَ بِأَجْمَعِهِمْ مَا سَلَكُوا فِي الْمُحَاجَّةِ مَسْلَكَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي تَقْسِيمَاتِهِمْ وَتَدْقِيقَاتِهِمْ لَا لِعَجْزٍ مِنْهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَلَوْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ نَافِعٌ لَأَطْنَبُوا فِيهِ، وَلَخَاضُوا فِي تَحْرِيرِ الْأَدِلَّةِ خَوْضًا يَزِيدُ عَلَى خَوْضِهِمْ فِي مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا أَمْسَكُوا عَنْهُ لِقِلَّةِ الْحَاجَةِ فَإِنَّ الْبِدَعَ إِنَّمَا نَبَعَتْ بَعْدَهُمْ فَعَظُمَ حَاجَةُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَعِلْمُ الْكَلَامِ رَاجِعٌ إِلَى عِلْمِ مُعَالَجَةِ الْمَرْضَى بِالْبِدَعِ، فَلَمَّا قَلَّتْ فِي زَمَانِهِمْ أَمْرَاضُ الْبِدَعِ قَلَّتْ عِنَايَتُهُمْ بِجَمِيعِ طُرُقِ الْمُعَالَجَةِ، فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنَّهُمْ فِي مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ مَا اقْتَصَرُوا عَلَى بَيَانِ حُكْمِ الْوَقَائِعِ، بَلْ وَضَعُوا الْمَسَائِلَ وَفَوَّضُوا فِيهَا مَا تَنْقَضِي الدُّهُورُ وَلَا يَقَعُ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَا أَمْكَنَ وُقُوعُهُ فَصَنَّفُوا عِلْمَهُ وَرَتَّبُوهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ، إِذْ عَلِمُوا أنه لَا ضَرَرَ فِي الْخَوْضِ فِيهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْوَاقِعَةِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَالْعِنَايَةُ بِإِزَالَةِ الْبِدَعِ وَنَزْعِهَا عَنِ النُّفُوسِ أَهَمُّ، فَلَمْ يَتَّخِذُوا ذَلِكَ صِنَاعَةً لِأَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّ الِاسْتِضْرَارَ بِالْخَوْضِ فِيهِ أَكْثَرُ مِنَ الِانْتِفَاعِ، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ حَذَّرُوا مِنْ ذَلِكَ وَفَهِمُوا تَحْرِيمَ الْخَوْضِ لَخَاضُوا فِيهِ.